.

Unlimited Free Image and File Hosting at MediaFire Unlimited Free Image and File Hosting at MediaFire

الجمعة، 9 يوليو 2010

تكست - العدد الرابع - سرافيــــــس


هاشـم تايـــــه *

أجلس على مقعد في مؤخرة باص، وأكتشف على الطريق كيف تجرح العجلات الزمن...

أنا في مدينة يقول عنها أهلها إنها عاصمة بلادهم الواقعة على المتوسط..

وأرخص شيء في هذه البلاد، ركوب السّرفيس، أو الكيّا كما يسمّيه أهل بلدي، والباص بلغات أهل الأرض...

خمس ليرات فضيّة فقط بحجم زرّ من أزرار سترتي تجعل السّرفيس يرحّب بي، ويُجلسني على مقعد من مقاعده، ويطير إلى أيّ مكان يشتاق إليّ، ويرغب في أن يراني، ويتعرّف عليّ!


Unlimited Free Image and File Hosting at MediaFire
نعم! فمنذ يومي الأوّل في هذه المدينة، طلعتْ في رأسي هذه الفكرة الغريبة، وخلاصتها تقول إنّ الأمكنة تستشعر وجودنا، وترغب في أن ترانا، لكي تتعرّف علينا، وهي قادرة على أن تجعل إقامتنا فيها سعيدة، أو شقيّة، بحسب رضاها عنّا، أو اشمئزازها منا...

عادةً، حينما أكون بين المتزاحمين في قلب أيّ محطّة من محطّات الباصات أتطلّع إلى أسماء الأحياء، والقرى، والمدن الصغيرة المكتوبة على صفائح معدنيّة مستطيلة قائمة فوق رؤوس السّرافيس، وأكتشف فجأةً المكان الذي يناديني بشوق، ويدعوني إلى زيارته، فأصعد إليه الباص بالليرات الفضيّة الخمس التي تجعل أشواق القرى والأحياء، والمدن الصغيرة إلى معرفتي تُحقّق أغراضها ببساطة...

إنّني أسمع نداءات الأمكنة، وخفقات أرواحها المكنونة، وأحسّ بنبضها المحترق، ولهفتها إلى من يجيبها... أمس دعتني القديسة زينب إلى زيارتها في ضريحها، فمضيتُ إليها راكباً ثلاثة سرافيس لكي أصلها في قريتها البعيدة... كان زائروها يتشبّثون بقفصها الذهبيّ المهيب، يستصرخونه بالدّموع، ويتنافسون على تقبيل الرّوح الغافية فيه، ولا يتركون لأحد سبيلاً إليها.. تقهقرتُ إلى وراء، وجلستُ على المرمر البارد، وغربتُ عن جسدي باذلاً روحي لغرام الأشياء التي شرعتْ تحيط بي، وأحسسْتُ بروح أمومي مُبخَّر يدنو منّي قائلاً:

"ها أنت جئت، أهلاً بك..."!

صدّقوني إذا قلتُ لكم إنّني، في هذه المدينة، أحببتُ فكرتي الغريبة عن الأمكنة ورغباتها، وساعدتُها على التحقّق يوميّاً بعدد من الليرات الفضيّة الصغيرة التي تسكن في جيب سترتي، وتثرثر مع بعضها عن أشواق أمكنتي في الظلام...

أحياناً، حين يبدو لي أن فكرتي الحبيبة توشك أن تضعف، أو تتخلّى عنّي، أهبّ لنجدتها، ومساعدتها على الرسوخ في عقلي، فأقنعها بأنّني الآن في هذه القرية البعيدة، لأنّ شظية شوق ملتهبة إلى زيارتها نبتتْ في رأسي بعد أن طفرت من قلب إنسان كان يقيم فيها، ولمّا مات بقيت شظايا شوقه إلى قريته طائرة في الفضاء، وإحدى هذه الشظايا أصابتني، وهي التي أركبتني الباص وحملتْني إليها، وإلاّ كيف أسأل العابرين الآن في دروب هذه القرية عن عنوانات لم تخطر يوماً في بالي؟ أليس شوق ذلك الراحل الذي نبتتْ شظيته في رأسي، هو من يسأل عنها، ليرى كيف أمستْ بعد رحيله؟

إنّني أخشى أن أقول لكم إنّ الأمكنة إذا كانت قد خلقتْ في عقلي رغباتي إليها، فإنّ رغباتي، هي الأخرى، خلقتْ، في هذه المدينة، المزيد من الأمكنة الجديدة، وجعلتْها تتوسّع مدناً، وقرى، وأحياءً، ومقاهي، ومطاعم، وترافك لايتات، وسرافيس، وعدداً هائلاً من الليرات الفضيّة الخمس...

وفي الشارع، حين خرجتُ، ناداني مقهى شعبيّ صغير على الرّصيف المقابل، وبين روّاده وجدتُ كرسيّاً وطاولة ينتظرانني، وقدّما إليّ استكانة شاي جرتْ لذّة شرابها ودفئه في دمي...

وبإمكانكم أن تتخيّلوا الحجم الهائل الذي انتهت إليه هذه العاصمة لو علمتم عدد الغرباء الهائمين مثلي فيها، الذين تسكنهم أشواق الأمكنة، وتتلبّسهم نزعاتها الغامضة...

لم ألجأ إلى عاصمة هذه البلاد هرباً من الحروب التي هي بحق إحدى هوايات البلاد التي ولدت فيها وأعطتني تسعة وخمسين عاماً هي هذه التي ترونها راجفة مجعّدة في ثيابي، وقد عشت واحتفظت بحياتي في بلادي المحاربة، لأنها اعتبرتني مجرّد شجرة تستطيع أن تقطع منها ما تشاء حطباً لنيران حروبها...

صحيح وحقيقي أنّ ابني الذي يعيش من زمن في إحدى البلدان البعيدة أرسل إليّ مالاً وقال لي في جوّالي إنّ خطراً يتهدد حياتي، وإنّ عليّ أن أغادر بلادي فوراً، وحين سألتُه عن معنى (خطر) لم يجب، ولم يجب أيضاً حين سألتُه عن قوة هذا ( الخطر)، بل سكتَ قليلاً ثمّ قال "هذا مال يكفيك للخروج من بلادك التي أتلفتَ فيها حياتك"...

لكنّ هذا الحدث الخارجيّ، على الرغم من جدارته لكثيرين، لا يستطيع أن يدخل في عقل شخص مثلي اعتاد أن يعيش حياته في داخله بصمت، وأن يقنعه بالرحيل عن بلاده، فأنا لا تحرّكني إلاّ أحداثي الداخلية التي لا تبدو لي كأصداء لما يقع من حولي، بل هي تتصرّف على هواها لأنّها ببساطة نتائج لما يجري فيها، ولهذا هي تبدو للعاقلين كإجابات حمقاوات لعقل أبله أو ساذج .

يمكنني أن أقول إنني، بنفسي، طردت جسدي إلى هذه العاصمة التي تتحرّك أعضاؤها الهائلة على الطرقات في عدد هائل من باصات الكيّا.. وتكاد تكون هذه الباصات أهمّ وسائل الأعشاش، التي يحيا فيها أهل هذه البلاد بعضهم فوق بعض، للعمل والغذاء..

أحياناً يبدو لي الأمر كما لو أنني قمتُ باختطاف جسدي ووضعتُهُ في باص وأرغمتُهُ على الإقامة بعيداً في مدينة الكيّا... وأحياناً يخيّل إليّ أنّ عاماً من أعوامي التسعة والخمسين قد ارتكب خطأً فظيعاً غدا عاماً بعد عام مثل كدر أسود يلوّث مياه حياتي التي يحسبها أصدقائي مثالاً للنقاء، وذلك الخطأ الكريه قلب وجهه من زمان، وفرّ هارباً إلى إحدى المدن البعيدة وعاش فيها بين الناس من أجل أن ينجو بحياته ويستمتع بطريقته الخاصّة التي لا يمكن أن تعجبني أبداً.. وهكذا وجدتُ أنّ عليّ، من أجل أن أنقذ مياهي من الكدر، أن أبحث عن ذلك الخطأ الذي يحمل اسمي، وأن أجده، وأرغمه على أن يعود إلى الصواب.. وهذا أنا أجلس في الكيّا المسرعة، وأخرج يدي من النافذة، وأقطف هواءا ينعش رغبتي في العثور على الخطأ الذي أنجبتْهُ حياتي، هذه الرغبة التي أريد لهواء هذه المدينة أن يجعلها تعيش وتترعرع في جسدي، وتتنزّه معي..

أنا أمتلك، كما تحزر أنت الآن، عدداً لا بأس به من الذرائع التي تواطأتُ معها فحملتْني في باص إلى هذه المدينة، وعلى رأس هذه الذرائع كلّها هناك ذريعة الجسد التي لعبت بعقلي فاستقبلتها بحفاوة، وعانقتها، وبسْتُها، وصدقتها بسهولة كمنقذة لي من رعبي من أقفال العمل والنوم والأحلام، تلك الأقفال التي تبعث الصداع في رأسي وتجعلني عاجزاً أرتجف من الخوف، فقد قال لي جسدي المحترم، إنّه بقضاء أوقاته مسافراً بخدر في باص يستطيع أن يتخلّص من ضغوط الأيّام عليه، فينجو، بطريقة لا أعلمها من دقائقها التي تستنفد دمه، وكأنّ الأيّام، لدى هذا المحترم، لا تستطيع أن تصعد معه إلى الباص .

إنّني، إذن، أمثّل، على طرقات هذه المدينة دور العابر بلا أجر، وعبيد الكيّا هم وحدهم من يحتفون بي، لأنّني حين أملأ بجسدي المقعد الفارغ الأخير، يكون بوسعهم أن يتجرّأوا على السائق، ويصرخوا به: هيّا ! فلا يجد هذا الأخير فرصته في أن يشعل السيجارة في فمه، أو أن يضغط على زرّ الراديو من أجل أغنية الطريق قبل أن يدير مفتاح محرّكه وينطلق بكيّاه. وحينئذ، فحسب، أشعر بالاطمئنان إلى أنني لستُ شبحاً، فما من شبح يستطيع أن يقنع راكبين في باص بأنّه قادر على أن يشغل مقعداً فارغاً، ويكون سبباً في انطلاقة الطريق...

في كثير من الأحيان، ومن أجل أن أشعر بجدوى وجودي، وأرى شهوداً على حضوره أتعمد أن أكون آخر الصاعدين إلى الباص، ولهذا تراني أقف قبالة بابه المشرع أتصنّع الإبطاء والتردّد، وأرمي بنظراتي على الراكبين المنتظرين، وأحجم، بقصدٍٍ، عن الصعود حتّى يهتف راكب من عمق الباص: " ماذا تنتظر، اصعد هذا مقعد فارغ " .

اليوم وغداً وبعد غد أستطيع أن أقول بسعادة إنني على الرغم من كوني غريباً في هذه المدينة إلاّ أنّ لديّ عددا هائلاً من الأصدقاء الذين يتبدّلون على الدوام أولاً، ولا يعرفونني ثانياً، ويتركونني أعيش أحداثي الداخلية بحريّة ثالثاً، وأخيراً صداقتهم بالنسبة لي مثل الحبّ المحروم من طرف واحد، وهي لا تكلفني إلاّ مبلغاً زهيداً أدفعه لسائق الباص الذي يحملني معهم، ويعجبني في هؤلاء الأصدقاء أنّهم على مقاعدهم كائنات هامسة تجلس إلى جواري بصمت جليل، كأنّهم يخضعون عن طوع لدستور الباص غير المكتوب الذي يحبّب إليهم أن يخدّروا أجسادهم وألسنتهم على مدى الطريق، وأن يقولوا أشياءهم لأنفسهم، دستور عظيم ينزع عنهم فظاظة الجسد واللسان ويجعلهم خجلين مشدودين بوقار برباط الطريق، وفي وضع كهذا أستطيع أن أرى أفكار هؤلاء الصامتين على المقاعد، وأن أقرأ مشاعرهم، وأحزر غاياتهم من ركوبهم الباص، وما الذي يقلقهم، وإلى أين سيمضون، وماذا سيفعلون حين يغادرونني...

في إحدى المرات جلستُ خلف امرأة كان رأسها ملفوفاً بوشاح مرصّع بأزهار بنفسجية وبرتقالية، أخفى عنّي بعض معالم مؤخرة رأسها، وقد تطلّب منّي رسم وجهها بذل جهد كبير للتوصل إلى صورته بأعضائه المكتملة، ولم أستطع إتمامه رغم عمليات المحو واستبدالات الخطوط الفاشلة التي أجريتُها وفي اللحظة التي شرعتْ فيها عيني تعيد رسم الشفتيْن صُعقتُ، لأنّ تلك المرأة أدارت رأسها إليّ ، وكأنها أحست بوقع الخطوط وجريانها على قفا رأسها على الرغم من أنها مجرّد خطوط لم تُرسَم بقلم أو بفرشاة وإنّما بمجرد حركة النظر المنطلقة من عيني، وحين نزلت المرأة وغادرت الباص خجلة كما كنتُ أتوقّع ، كانت تحمل وجهين أحدهما حديقة للآخر.

الباص مجرّد طريق بعجلات، هكذا يراه الراكبون معيّ، أو هو طريق موجز فوق الطريق الطويل المعبّد، يؤمّن لهم الوصول السريع إلى أمكنتهم، وبالنسبة لشخص غريب مثلي ليس لديه مكان يصل إليه صارت غايتي من ركوب الباص الإقامة فيه أطول مدة ممكنة، ولهذا تراني آخر من يغادره في آخر نقطة من نقاط حركته على الطريق، خاصّة بعد أن فقدتُ الشعور بشيء اسمه قريب، وشيء آخر اسمه بعيد.. قريب من ماذا؟ وبعيد عن ماذا، وأنا في مدينة ليس لي فيها مكان؟ إنني مثل سمكة تسبح في مياه ولا تجد فيها نقطة تنطلق منها أو تقف عندها..

من بين الذين يحملهم الباص أنا وحدي من لا يشعر بالملل داخله، على العكس من بقية راكبيه الذين يضجرهم طول الطريق وانقطاعاته، أو توقّفاته الاضطراريّة خلال الزحام، وعند اشتعال العين الحمراء للترافك لايت، تلك العين السّاخرة التي تعلن الموت المؤقّت للطريق... في الباص أشعر بأنني أحفظ نفسي ممّا يجري خارجه منفصلاً عن الزمن الذي أستطيع أن أراه من وراء زجاجة النافذة التي أجلس إلى جوارها يعمل بطاقاته الهائلة دافعاً كل شيء أمامه.. وعلى مقعدي أحبس أنفاسي وأجمّد أعضاء جسدي كلّها وأمنعها من الحركة، مقلّلاً إلى حدّ بعيد من نبضي، غارقاً في طبقات قطنيّة من السكون، وحين يمدّ الزمن يده إلى عمق الباص من خلال إحدى نوافذه المفتوحة لا يأخذ منّي شيئاً، وكأنّه يشعر بأنّني مراقب خارجيّ لا ينتمي إلى قطيعه، مجرّد مراقب في جولة هائمة أسجّل خلالها ما يقوم به الزمن الذي لا يتدخّل في شؤوني...وبأسباب كثيرة ذكرت بعضها أتمتّع أنا بيقظة ناعسة مستقلة ومنفصلة عن أعضائي الجامدة على مقعدي في الباص، وكأنّ أحداً سواي يرى من وراء الزجاج هذه الأشياء الراكضة وراء بعضها في عالم نزعت عنه الحركة السريعة تفاصيله وحدوده فتداخل في بعضه... يستثيرني دوماً وجه سائق الباص الذي أراه في مرآته المستطيلة المعلّقة مقطوعاً عن جسده، وجه آخر تخلقه المراقبة الدائمة لما يجري في عمق الباص، ولما يقع أمامه، وداخل حدود هذا الوجه تحدث القسوة باستمرار بمجرّد أن يتحرّك الطريق، وتعلن نفسها بنظرات ثاقبة مسدّدة، وبعدد من الكلمات لا يمكن أن تنزل من الباص وتعيش خارجه، وأعتقد أن هذا الوجه مصنوع ومهيّأ لأن يلبسه السائق حين يجلس وراء المقود ويباشر مهمّته... وأظنّ أنّ السّواق يعدوّن باصاتهم أنثياتهم اللواتي يبحثون عنهنّ دوماً بين الركّاب وعلى الأرصفة البعيدة، وربما هنّ أنثياتهم المفقودات، أو صورهنّ أو ذكراهنّ الأليمة التي تطعنهم، ولا يخفّف من طعناتها إلاّ دخان سيجارة في الفم، أو أغنية مشتعلة في كاسيت.. يحرص السائق على تزويق أنثاه، أقصد باصه، وتزيينها بإكسسوارت متنوعة، مصابيح صغيرة حمراء وخضراء وبرتقالية وحتّى زرقاء على جانبي السقف من الدّاخل، ودُمى راقصة معلّقة على الحافة العليا للزجاجة الأمامية، وقطعة من الفرو تغطي السطح المستطيل وراء المقود، وخرز ملوّنة معلّقة قريباً من مرآته المستطيلة التي تبثّ وجهه، وتطلقه على الراكبين، الوجه الذكوري النهم بشاربيْه المسنونيْن، وبالتماعة الشهوة في عينيْه.. وغير ذلك عبارات قصيرة مكتوبة على صفائح مستطيلة موزّعة على المحيط الداخلي، عبارات أغلبها باللغة المحليّة، بعضها منتزع من أغاني الهجران والخيبة، وبعضها شائك، كهذه العبارة التي كتبها سائق على خلفية مقعده " كلّ الخيول للبيضا عبيد ".

* فنان عراقي


للعـــــــــــــــــــودة للصفحة الرئيســـــــــــــة - العــدد الرابــــــع


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق