* د أسعد ألأسدي
قد يصاب احدهم بالخيبة وهو يقرأ كلمة
( الوظيفة ) في سياق الحديث عن العمارة اليوم ، حيث تتبارى أشكال الأبنية دون نية أخبار عن علاقة تلك الأشكال ببنية الوظيفة التي تسكن المبنى . غير إن الأمر وببساطة صادمة ، إن العجلة التي وجدنا السبيل إلى اختراعها ، لا يمكن ألا أن تكون دائرية ، كي يتاح لنا اعتمادها عجلة ، يمكن تحريكها لقصد تسبب أولا في حدوثها ، أما الكلام عن عجلة مربعة فهو كلام في نفي العجلة واستحالتها ، وهو إشعار يمكن له إن يوحي بدلالات أخرى ، سوى توظيف العجلة لما تعودت عليه . ونريد في قولنا في العجلة ، تشبيها لقولنا في ضرورة الوظيفة في العمارة ، لحد نفي العمارة في حال نفي وظيفتها .
والوظيفة لدى ( موكاروفسكي ) تعني استعمال الشيء لغرض معين ، استعمالا متكررا يلقى قبولا اجتماعيا ، وليس محض استعمال وحيد أو استعمال متكرر من قبل شخص واحد . وهو قول يمكن إن يدلنا على إن لكل شيء في الوجود الإنساني وظيفة ، تتأتى من علاقة الإنسان بذلك الشيء ، وإيراده في سياق توظيف ما . وفي العمارة ، تتضمن الوظيفة كل الأغراض التي يكون المبنى معنياً بخدمتها وانجازها ، وان يكون متوافراً على متطلبات الملائمة والراحة ، كما كان ( فتروفيوس ) يدعو إلى ذلك ، على الرغم من إن توافر الملائمة والراحة في المبنى ، هي مسألة معقدة ، ومعيار يختلف من شخص لآخر ، ومن وقت لآخر ، ومن مكان لآخر .
كما إن وظيفة المبنى لا تشير إلى توفره على متطلبات راحة الجسد فقط ، بل راحة العقل والنفس أيضاً . و ذلك أفق متغير وصعب التحديد ، يكشف عمّا يقع للوظيفة ، بوصفها احد الأبعاد الثابتة في العمارة ، من تغير ، حينما تقيم علاقة مع الأبعاد المتحولة فيها ، والتي تمارس تأثيرها حالما تحضر العمارة في وجود واقعي لها في مبنى ما ، ويمكن القول ، بأن تحول مفهوم الوظيفة بتأثير ما يقع للعمارة ، في وجودها الفردي في مبنى ، يترك الفرصة عريضة ، أمام إمكانية استعمال المبنى بكيفيات وكفاءات مختلفة ، حيث إن الأمر على وجه العموم ، يتمثل في لزوم توفر المبنى على متطلبات استيعاب فعل التوظيف على اختلاف حالاته .
ومما يزيد أمر تدخّل الوظيفة في العمارة وضوحاً ، إن العمارة تشتمل في العادة وبشكل جوهري على مشكلة ، مثل كل شيء يصنعه الإنسان ، يكون قد نشأ عن مشكلة ، وانه يعبّر عن حل هادف لها . وتبعاً لذلك فأن المهمة الأولى للمهندس المعماري ، كما يقول ( نوربرغ – شولز ) هو إن يقدم حلاً للمشكلة التي يصادفها المبنى ، وتلك هي وظيفته أو مهمته ، والتي تمثل نقطة الانطلاق في الحل المعماري . حيث تساعد الوظيفة في كيفية إن يكون المبنى ويصمم ، على مستوى المخطط وأشكال الفضاءات ومسالك الحركة ، فضلاً عن التزامات المتانة الإنشائية والتعبير الجمالي ، بما يحقق كفاية وكمالا مرجوين في العمارة .
وقد كان ( افلاطون ) يقول بأن كل شيء في الوجود ، يكون ظهوره وكمال وجوده ، وفقاً لغاية معينة يؤديها . كما إن ما يفرض أولا، حين نروم إن نصنع شيئاً ما كما يقول ( ابن سينا ) ، هو غاية ذلك الشيء ، ومنه يُستنبط سائر ما قبل الغاية وما بعدها . والغائّية هي قانون طبيعي يقوم عليه وجود كل الأشياء . على فهم إنها النزوع إلى توظيف الشيء نحو استعمال معين ، إذ لا يمكن تخيل شيء في الطبيعة ، بدءاً من الميكروفيزياء كما يذكر ( باشلار )، بدون عمل يحققه هذا الشيء . ولا تخرج العمارة عن دائرة هذا الإجماع . في كون الوظيفة هي فكرة أساسية ومولدة ودائمة الحضور في العمارة . كما تؤكد ذلك آراء الباحثين ، في مسميات ومصطلحات مختلفة ، مثل الضرورة أو الحاجة أو الفائدة أو الغاية ، غير إنها مسميات تؤدي المسألة ذاتها.
فنجد ملاحظة ( البرتي ) في كتبه العشرة عن العمارة ، بأن سبب ولادة أي مبنى ، إنما يعود إلى الضرورة أو الحاجة . إذ إن العمارة كما يقول ( لوجير ) إنما تتأصل في الضرورة . وان ما يظهر في العمارة ويكشف عن نفسه في رأي ( لودولي ) هو ما يمتلك وظيفة محددة ، وما يجد تبريره في الضرورة والحاجة . ولذلك فهو يمنع كل ما بضاد هذه المبادئ ، التي يعدّها حجر الزاوية في العمارة . ولهذا فأن الشرط المهم في العمارة لدى ( ووطن ) هو إن تكون ملائمة لأجل تحقيق الحاجات والوظائف الإنسانية التي تكلف بها . وكان ( لوكوربوزييه ) قد ذكر بأن القول بالعمارة الوظيفية هو ثرثرة... لأن العمارة وظيفية بالتأكيد ، وإذا لم تكن العمارة وظيفية ، ما الذي يمكن لها إذن أن تكون .
لقد رأى ( بلوندل ) إن العمارة يجب أن تتميز عن باقي الفنون الجميلة ، كالتصوير والنحت ، لأن المعماريين وبسبب تأثير الجانب الوظيفي على مهماتهم ، لا يمكن أن يسمحوا لأنفسهم بأن يكونوا شكليين بدرجة مطلقة . فالعمارة هي أكثر من مجرد قضية تناسب وجمال ، إذ يجب أن تكون ذات فائدة محددة . وفي رأي ( لويس كان ) فأن الأبنية هي ليست مجرد أشكال تجريدية ، بل هي دائماً في خدمة المؤسسات الإنسانية . فالبيت مبنى لأجل السكن والراحة ، والمدرسة مبنى لأجل التعليم ، حيث تسكن المؤسسة المبنى فيكون بيتها .
ونجد في فلسفة ( فتجنشتين ) الأخيرة ، إن الفصل بين ما يخدم غرضاً أو غاية ، وبين ما هو غاية في ذاته ، هو فصل زائف بالنسبة إلى طبيعة العمارة ، لأن العمارة هي الفن الوحيد الذي هو ليس غاية بحد ذاته . فالعمارة وعلى الرغم من كل انجازاتها الشكلية والتعبيرية ، لاتكون ولا يمكن لها ان تبلّغ خطابها التعبيري ، قبل ان تتوافر على امكانية التوظيف . وعندما تجد العمارة مبررها الوظيفي ، يكون في قدرتها ان تحقق متطلبات الوظيفة في كيفيات شكلية مختلفة ، تبعاً لقدرة المهندس المعماري الابداعية .
وهذا الامر يعني بأن الوظيفة ، هي ليست ما يسبب ان تكون العمارة وحسب ، بل هي أيضاً غاية ما يتعلق بها . ونحن في واقع الامر لا نستعمل ما هو موجود على الدوام ، بل وبالقدر ذاته ومنذ البدء ، انما نوجد ما نحن في حاجة إلى استعماله ، في صياغة شكلية ، هي ليست ممارسة تلقائية ، بل ممارسة قصدية ، يكون الألتزام الوظيفي احد العوامل المؤثرة التي تتدخل بوضوح في بلوغ شكل المبنى.
ان وظيفية العمارة ، وعلى الرغم من انها التزام تضع العمارة نفسها امام مهمة الايفاء به ، غير ان هذا الالتزام ، هو ليس نتاج موقف ايديولوجي أو اخلاقي معين ، بل هو في حقيقة الامر نتاج التزام ماهوي ، ذو علاقة بطبيعة العمارة ذاتها ، يتأكد في ما توصلنا اليه من ان العمارة هي وظيفية في علتها وفي غايتها . ونحن في هذا البحث انما شغلتنا الوظيفة ، ليس في انها استثمار للعمارة ، بل في كونها مقوماً اساسيا في بناء ماهيتها.
*أكاديمي عراقي
للعـــــــــــودة للصفحة الرئيسة - العــــددالرابع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق