*حميد عبد المجيد مال الله
إزاء مسرحية مطبوعة , ستتحدد القراءة بثلث فضاء المسرحية تقريبا! لأنها جزء من نسيج متشابك معقد ومتداخل , ثلاثي الأبعاد , مكوناته : النص , ومبثوثات منصة المسرح , والتلقي , ولكل نسيجه الظاهري والآخر الخفي .
ابتني النص وفق مقاربات المنهج الملحمي بحدود . سواء في غائيته غير الخفية المحركة للوعي . بإسقاط الماضي على الحاضر أم في تقاناته الجمالية مثل الجوقة الناطقة بصوت الناس وأصواتها الفردية , والشخصية المركزية ما بين تفردها وتماهيها مع الراوي , مع شحنات متوالية تبدد الإيهام . وشيء من التغريب . والتخاطب المباشر مع المتلقي ضمن التقنع بقناع المسرح داخل النص المسرحي , وبتصريحية حوارية , وأخرى محاكاتية .
كذلك تنويع الحوار , بالجمع بين النثر والنظم الشعري الكلاسيكي . النثر كلام تنويعي بدوره , فيه لغة وسطى , وأخرى أدبية أرقى , مع لهجات مصاغة في تقارب مع اللازمة الشعبية والأمثال وكلام العوام , مع حوار آخر مسجع , وآخر استنبائي عن شواهد ستأتي بعد ألف وألفي عام من زمن النص , مما يعزز المنهج الاسقاطي . الحوار موجز حذق فيه مهارة .
أما الشعر , فهو مقتبس تم تدويره ضمن جنس المسرح , وشغل مكانة كبيرة كحوار.. الشعر أكثره مقتبس من قصائد ابن زيدون , واقله من قصائد لولادة بنت الخليفة المستكفي , وللجواهري الكبير , ولشاعرين معاصرين من تونس هما : ابوبكر بن حبيش وجعفر ماجد . عدد الأبيات المقتبسة بلغت أكثر من سبعين .
الخلطة الحوارية المغربة , عالجتها (إرشادات المؤلف الإخراجية) بمقترحات (التغريب) في الأداء الصوتي : الغناء والإنشاد , والإلقاء الشعري , والروي , وترنيمات وترديد الدراويش .. واقترح بيتا شعريا تغنيه فيروز مع تعقيبات لابن زيدون على شدوها
إذا كان الحوار من المكونات الارتكازية للنص , بمهماته المتعددة , استكشاف الشخصية وأزمتها ,والأحداث , والفعل ..الصراع , وسواها . فان هناك مكونات أخرى تدعى (المناصات)أو مصاحبات النص . المنهجية الحديثة تهتم بالمناصات , وهي كل مايحيط بالنص (من سياقات تعالقيه ) مثل : العنوان , وتعليمات أو إرشادات الكاتب ومقترحاته الإخراجية بنوعيها الخارجية السابقة للنص , والداخلية التي تتخلله . وتسمى (النص الثانوي) . وفيما يخص (المطبوع) هناك غلاف الكتاب واللوحات والصور والإهداء .. مسوغ ذلك إن لكل منها دورا في بث إشعاعات وأضواء تمهد للكشوفات والتجليات .
المسرحية بعنوانين ثبتا على لوحة الغلاف , وفيها وجهات تجاه الرائي لرجل وامرأة , بأسلوب حديث مضبب , ألوانه متداخلة فيها الأزرق والرمادي والبرتقالي على خلفية بيضاء , اللوحة تفاوض الذاكرة لاستذكار علاقة حب بين ابن زيدون وولادة .
تتكرر اللوحة في حقل مصغر على الغلاف الأخير ؛ يشغله حوار لعامل (النص) وهو كلام مرحل من مسرحية سابقة للمؤلف بعنوان (النص) الاقتباس منها يعد نوعا من (التدوير الذاتي) فيه رؤية فلسفية يقترحها الكاتب – كما أرى – أسقطها على المسرحية الجديدة .
نص الحوار المقتبس :
سؤال غير بريء
قيل عن التاريخ – بصفته حاضن أحداث –
انه صاحب نزوات
وانه لوشاء محاكاة احد أحداثه الماضية – إعادة
على شاكلة مهزلة .المهزلة – بالمعنى المتفق عليه لا تمت للكوميديا بصلة
السؤال الذي يرد إلى الذهن
ماذا لو إن الحدث الأصل – وقد حاكاه
التاريخ الآن .. كان مهزلة صرفا ؟!
ثبت هذا الحوار ثانية داخل المطبوع ص7 بهدف تأكيد الرؤية الفلسفية – كما استنتج .
المسرحية مهداة إلى الكاتب المسرحي الراحل سعد الله ونوس المعروف بمسرحه التنويري , وبياناته المسرحية المثيرة للجدل . في تساوق مع النهج , الشخصيات تعرف بنفسها عبر مخاطبة الجمهور بذلك استغنى الكاتب عن (تقليدية) الإرشادات السابقة للنص والتي عادة ما تتولى ذلك . إلا انه لم يتبع التقسيم إلى فصول كما هو سائد في تقسيمات المسرحيات , ولا إلى لوحات كما في مسرح برخت , واثر التأسيس على مكونات التقسيم الجزئية أي (المناظر) فقسم مسرحيته إلى أربعة مناظر .للاستهلال دور مهم في اجتذاب المتلقي , وهذا ماتوافر في مقترح لتصميم سينوغرافيا المنظر الأول , دلالاته أزياء وإكسسوار وديكور , وحركة نساء يتبضعن في سوق للعطور بقرطبة . حيث اصطف ثلاثة رجال بثياب رثة ولحى طويلة – يبدون كمحترفي تسول يؤدون دور جوقة دراويش .. صور المشهد فنية مثيرة مركبه من مناظر مألوفة وأخرى لا مالوفه .. وصوت ابن زيدون ينشد البيت الأول من قصيدته النونية :
أمسى التنائي بديلا عن تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بيت الشعر يمهد للقاء بين العاشقين .كما يفاوض ذاكرة المتلقي لتحريك خزينها المعرفي , والإحاطة بهذا الشأن .
وتبدأ الجوقة إيضاحاتها وتحديدها للزمان والمكان , وعرف الشاعر بنفسه محادثا الجمهور , وتواصل الجوقة طروحاتها الصريحة عن ابن زيدون , وأوضاع البلد السياسية والاقتصادية والاجتماعية تشكيلة الجوقة من بناء فني مؤسس على تقاليد شرقية : دراويش وأذكار وتصوف , إلا إنها تعكس وجهة نظر فاضحة لزمن ملوك الطوائف ..
الجوقة : ليس لأحدهم في الخلافة ارث ولا سبب ولا في الفروسية سبب .. اقتطعوا الأقطار واقتسموا المدائن الكبرى .
ويكمل ابن زيدون الفضح بتجاوز راهنية ذلك الزمن .ابن زيدون : أما السياسة فهي علة العلل لدينا نحن العرب ..
ومهنة من لا مهنة له من سادتنا !فتتصدى له الجوقة بنقد حاد , لأنه سبق وان استوزر ..
الجوقة : أنت واحد من سادتنا هؤلاء !تتضح خيوط من مبثوثات العنوان – كما استنتج – تمتد في كل مناظر المسرحية . فما جرى زمن ملوك الطوائف له (بقية) لم يكن غلقا لتاريخ, وإنما مفتتحا لما سيأتي بعده , ولحد ألف عام قابلة للتمديد .
والعنوان الثاني (ابن زيدون) يفاوض الذاكرة الثقافية ؟ فتتخذ (التنقيب سبيلا للكشف عن تجليات النص وملابساته) فالعنوان (أول مثير سيميائي في النص) ويمكن أن يكون في حالات – كما في هذه المسرحية (مرتكزا للتلقي) تتشكل منه عمليات تلقي أخرى .
ابن زيدون كعنوان يندرج ضمن (التدوير العنواني الخارجي) المعني بالاقتباس من مرجع أدبي وتاريخي . بينما يندرج العنوان الأول (للحدث بقية) ضمن العنوان المألوف المفتوح على أزمنة آنية وآتية حال التشابه بين زمن ملوك الطوائف وألان , سبق وان رصدها محي الدين البرادعي في مسرحيته الشعرية (المؤتمر الأخير لملوك الطوائف الصادر عام 1986 ومن شخصياتها ابن زيدون . وفيها شخصيات عربية واسبانية . الأخيرة لا وجود لها في مسرحية (للحدث بقية) رغم إن الشعب الاسباني مكون أساسي في الأندلس لاحظت مايشبه الصراع الفني والاحتكاك بين (إرشادات المؤلف أو مقترحاته الدراما توريجية)وبين (حوار شخصيات المسرحية) إذ انصبت الإرشادات بوفرة شغلت نصف مادة الكتاب تقريبا! وفيها إسهاب وزوائد يمكن الاستغناء عنها ... مسعاها تحميل الحوار بشحنات وسمات معينة).
في هكذا لون مسرحي تسهم موجهات عديدة في كشف سمات وملامح الشخصية أبرزها الروي , والحضور الفعلي وأقوال الآخرين وحراكها ومجابهتها للازمات ولكونها بؤرة الصراع فان ذلك يؤدي إلى تحطم نفوس وأرواح تزيد من معاناتها يخضع ابن زيدون لحكم جائر,لتهم ملفقة من حساد وأعداء ينازعه على حب ولادة متنفذ في السلطة يحيك له دسائس تؤدي به إلى السجن حتى الموت . مع ثقل موقع الشخصية , إلا إن الجوقة مثلت في تكافؤ معها , إنها ذات وجود زئبقي, حاضرة في أحرج المواقف : في المحاكمة السرية لابن زيدون مثلا .. وترافقه في سجنه , دون أن تخضع لأي سلطان , وتروغ بيسر في المآزق الحرجة , تكشف خبايا السرائر . ذات بناء فني يتجاوز الوقائع تحتل مكانة مهمة في النسيج الاسقاطي باستنباءاتها , وخروجها عن الزمن الماضوي بها تختتم المناظر الأربعة , هي من نوع الراوي الضمني الكلي المعرفة . أضفت سمات التراجيكومك على المسرحية بتصرفاتها وتعليقاتها الساخرة الحاذقة .
تشي المسرحية بتغريد شمولي خفي كما استنتج منابعه حيرة الوجود وجود قوم في كيان رسخ لقرون على ارض ليست أرضهم .. وخاصة عندما آن أوان الأفول , وتحرك الأسبان أو الإفرنج في مصطلح ذلك العصر لاستعادة أرضهم وحريتهم .
وإذا كان عنوان (للحدث بقية..) يطابق مسارات المسرحية فان هذا المسار في محل استثناء – كما أرى – إذ يرد في بيت شعري معاصر على لسان ابن زيدون , ويؤكد بتعقيبات الجوقة :
عشنا على هامش التاريخ مثلكم وبعد أندلس آلت فلسطينا
المقارنة بين القضيتين لا تفضي إلى تماثل بل إلى مغايرة ! وهذه قضية قابلة للجدل .
المسرحية مثيرة تقترح الإنتاج , اعني ليست من النوع القرائي حراكها مشوق بعدد الرومانسية والمفاجئات والتنكر والدسائس .. لاجئون هاربون من حرب شنها حاكمهم الطائفي ضد دولة طائفية شقيقة ! وطائفي أخر يستعين بالإفرنج ضد دولة شقيقة الطائفي المجاور ! تختتم المسرحية بنهاية مفتوحة : يبرأ ابن زيدون , يتردد في قبول عرض الاستيزار في حكومة صديقه الحاكم الجديد .. يجوب الشوارع في زي درويش متسول يبحث عن حبيبته ولادة في تماثل لبحث مهجر معدم عن زوجته في متاهته الغربة ... نهاية غير منفلتة عن موحيات العنوان .
هامش
اسم المسرحية : للحدث بقية ...
ابن زيدون
المؤلف : إسماعيل فهد إسماعيل
الناشر : الدار العربية للعلوم ناشرون
بيروت – لبنان
الطبعة الأولى 2008
عدد الصفحات 126
المقطع حجم متوسط
* مسرحي عراقي
للعـودة للصفحـة الرئيســـة - العـــدد الرابـــــــع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق